كتب: حسين كمال
علم الاقتصاد علم إجتماعي مثله مثل علم السياسة و الاجتماع و علوم أخري كثيرة. هو يختلف عن العلوم المادية كالفيزياء و الاحياء و الكمياء في خاصية أساسية ألا و هي أن العلوم المادية لها القدرة على إثبات ظواهر معينة في المعمل و قطع الشك باليقين. هذا ليس بالضرورة صحيح في العلوم الاجتماعية التي ترصد ظواهر مجتمعية معقدة و تحاول تفسيرها و فهمها في ضوء تعقيدات مجتمعية غير ملموسة و لا يمكن إيجاد حلول معينة لهذه المشاكل الاجتماعية عن طريق تجارب في المعمل. ما يحدث عادةً و بخاصة في علم الاقتصاد هو محاولات تسهيل للواقع و الظواهر المعقدة عن طريق طرح مجموعة من الافتراضات لتكوين نظرية.
لنأخذ نظرية النمو لروبرت سولو على سبيل المثال، و هي النظرية الأشهر في التراث النيوكلاسيكي و التي تقول أن النمو يحدث فقط عن طريق تطور التكنولوجيا، روبرت سولو على سبيل المثال يفترض أن الاقتصاد مغلق تماماً و لايوجد تجارة عالمية، و لا تدخل حكومي من أي نوع في النشاط الإقتصادي، أن عدد المنتجات التي ينتجها المجتمع هي منتج واحد و يتم صناعته بنفس التكنولوجيا. في هذه النظرية يتم بناء الموديل الرياضي على هذه الافتراضات.
مثال أخر هو نظرية المنافسة المثالية و هي حجر أساس للرأسمالية و فكرة المنافسة التي كما يزعم مناصري المدرسة النيوكلاسيكية أن المنافسة سوف تولد توازن في الاسواق و حكم العرض و الطلب سوف يؤدي في نهاية الامر إلى أنسب الاسعار و أعلى كفاءة. هذا الموديل يفترض أن البائع جزء صغير في السوق بحيث أنه لا يؤثر تماماً في سعر السوق انما هو يحتكم لسعر السوق، إذن لا سيطرة له على السوق ولا على سعر المنتج الذي يبيعه، الافتراض الاخر أن جميع التجار و الشركات في السوق لهم مطلق الحرية في الدخول السوق و الخروج منه، كل المنتجات التي تباع في الاسواق متجانسة و متماثلة! كل البائعين عندهم المعلومات الكاملة عن منافسيهم و اسعارهم و كذلك المستهلكين بما يعرف بإسم إفتراض المعلومات الكاملة.
المعضلة هي أنه يتم إستخلاص نتائج في غاية الاهمية لصنع السياسة الاقتصادية من الموديلان الرياضيان السالف ذكرهم. في بعض أو كثير من الاحيان و بحرفة الاقتصاديين في علم الاحصاء يتم إثبات هذه النظريات عن طريق الارقام و المعادلات الرياضية. هذه النظريات مستندة على افتراضات غير واقعية مثل عدم وجود تجارة خارجية لاقتصادات الدول أو إفتراض المعلومة الكاملة (من منا يعلم سعر و تكلفة كل السيارات في السوق قبل شراء سيارته؟)….إلخ. و بالتالي مجموعة النتائج المبنية على الموديل الرياضي لابد و أن تكون مشوهة إن كانت مبنية على أسس مشوهة.
يتم إثبات هذه النظرية بالارقام عن طريق علم الإقتصاد القياسي، و هو بلا شك علم مفيد لكنه من المستحيل على قدرته أن يرصد كل الظواهر الكيفية و ليست الكمية في علم مثل علم الاقتصاد. في علم الاقتصاد النيوكلاسيكي، و تركيزي منصب عليه لأنه يدرس في أغلب الجامعات الاوروبية و الامريكية و ربما المصرية على إنه هو علم الاقتصاد دون الإلتفات للمدارس الأخري مثل المدرسة النمساوية أو المدرسة الماركسية، الافتراض أن البشر شخص عاقل و دائماً ما يختار المنتج الذي يعظم من منافعه في إطار ميزانيته لكن ما يغفله علم الاقتصاد النيو كلاسيكي مثلاً هو اننا كبشر تحكمنا أهواء تجعلنا نختار على أسس أخري لا شأن لها بتعظيم المنافع (ربما للوجاهة الاجتماعية، ربما الوقوع تحت ضغط الاعلام و ألة الاعلانات….إلخ) و هذا لا يتم أخذه في الاعتبار في علم الاقتصاد إليوم. لماذا؟ لأن هناك محاولات مضنية من زمن بعد في علم الاقتصاد على تحويله لعلم مادي يعتمد فقط على الارقام لاثبات نظريات مشوهة في افتراضاتها. علم الاقتصاد كما درسته في بريطانيا على سبيل المثال يغفل تماماً الابعاد السياسية و المؤسسية للمشاكل الإجتماعية و الاقتصادية، و كأن مشاكل الاقتصاد في دول العالم النامي هي مجرد عملية تقنية بحتة.
هذا على الجانب النظري في عالم الاكاديميا، ما أريده هنا هو ربط النظري بالعملي و ربطه بمصر على وجه الخصوص، لأننا نشاهد مراراً و تكراراً في الجرائد المصرية و القنوات و الإذاعة بعض ما يطلقون على أنفسهم خبراء اقتصاديين يحاولون تشكيل الوعي الجمعي للمصريين عن قضايا الاقتصاد على انها قضية رقمية بحتة. كلام من نوع أن معضلة التنمية في مصر تنبع من ندرة الموارد، مشاكل في الموازنة، رفع الضرائب يؤدي إلى هروب الإستثمار و هكذا. كان يطالعنا كهنة الاقتصاد من أنصار نظام حسني مبارك و سياسيين من الحزب الوطني الحاكم انذاك (بعضهم تخرج من أعتي كلية الاقتصاد الأوروبية و الامريكية) لكي يسردون أرقام مثل تحقيق معدل نمو ٧٪ أو تقليل نسبة البطالة بنسبة كذا، أو وجود تحسن كبير في معامل جيني المختص بقياس توزيع الدخل. الحقيقة أن هذه المؤشرات و الارقام و إن كانت صحيحة لم تنعكس على حياه المصريين، لأن هذه المؤشرات كما أشرنا سابقاً تعاني من مشاكل هيكلية في بنيتها الاساسية.
نأخذ النمو على سبيل المثال. النمو يمكن أن يحدث عن طريق إكتشاف ابار بترول و يتم نهب فوائض هذا المورد الطبيعي عن طريق الطبقة الحاكمة. يمكن للنمو أن يحدث عن طريق تسهيلات ضخمة لكبار المستثمرين و الطبقة الحاكمة على حساب العمال في نشاطات ريعية و أغلبها يشوبها فساد، هذا يعد في علم الاقتصاد نمو. يمكن للنمو إن يحدث على الطريقة المصرية إبان عصر مبارك، حيث النمو المادي يأتي مباشرةً على حساب التنمية البشرية لعامة المواطنين. في ظل الإطار الذي تحدثنا عنه، علم الاقتصاد النيو كلاسيكي بتشوهاته لا يهتم كثيراً إن كان طبيعة هذا النمو إنتاجي أم ريعي، إن كان هذا النمو له تكاليف بيئية تؤثر على الاجيال القادمة أم لا ضمن أشياء أخري كثيرة تغفلها هذه المدرسة الاقتصادية السائدة في العالم إليوم.
اقتبس جزء من مقال الصحفي المهتم بالشأن الاقتصادي وائل جمال لتوضيح فكرة النمو و حسابها “هو طريقة لحساب ومقارنة إلى أي درجة الأداء الاقتصادي لدولة ما حسن أم سيء”، تقول ديان كويل الاقتصادية البريطانية والمستشارة السابقة لوزارة الخزانة البريطانية في كتابها الصادر في يناير 2014 تحت عنوان “الناتج المحلي الإجمالي: تاريخ قصير لكن عاطفي” عن دار نشر جامعة برينستون الأمريكية. هذا المؤشر الخرافي، الذي يبدو أنه من حقائق العصر الثابتة يقيس كل ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات نهائية في بلد ما خلال فترة زمنية محددة عادة ما تكون وحدتها الأصغر ثلاثة أشهر. ويمكن قياسه بثلاثة طرق يفترض أن تتساوى: ناتج الاقتصاد، أو الإنفاق في الاقتصاد، أو الدخول. لكن كويل في كتابها القصير الممتع تنزع القداسة عن تلك الإحصائية التي يبدو وكأنها تتحكم في توجيه دفة ومسار حياتنا الآن. “ليس هناك شيء قابع هناك في العالم الحقيقي ينتظر أن يتم قياسه من قبل الاقتصاديين. هو فكرة مجردة، صارت معقدة جدا بعد حوالي نصف قرن من النقاش ومن وضع المعايير على مستوى دولي”. وتضيف كويل خلاصة كتابها الذي يستعرض تلك الإحصائية كظاهرة تاريخية: “لا يتعلق الأمر هنا بقياس ظاهرة طبيعية مثل مساحة أرض، أو درجة الحرارة بمستويات متفاوتة من الدقة”
القصور الهيكلي في علم الاقتصاد الذي يتم تدريسه إليوم في العالم يكمن في افتراضاته المشوهة في الاساس. بل و يتم نصح و ربما إجبار الدول النامية باتباع سياسات نيوليبرالية/كلاسيكية المبنية على تشوهات بنيوية لم تستخدمها الدول الصناعية المتقدمة في رحله تقدمها في القرنين السابع و الثامن عشر. أيضاً فصل السياسة و علوم الاجتماع و الحوكمة و الأوضاع المؤسسية و علاقات القوة في المجتمع عن علم الاقتصاد تفقده كثير من رونقه و معناه.
كيف لنا أن نتحدث عن إقتصاد يهتم بالانسان في دولة لا تسود فيها القانون أو تحت وطأة حكم إستبدادي يسرق ثروات المجتمع. أنا لست ضد محاولة توضيح نظرية أو رصد ظاهرة بالارقام، أنا ضد محاولة الجزم بأن هذه النظرية مناسبة لكل زمان و مكان مجرد لأن تم اثباتها عن طريق الاقتصاد القياسي. بم نفسر إذن وجود دراسات إحصائية من أفضل الجامعات العالمية و المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي تقول أن تفاوت الدخول يعطل النمو و أخري تقول أن تفاوت الدخول ضروري للنمو؟ دراسات أخري تقول أن إرتفاع الضرائب سوف يؤدي إلى هروب الاستثمار و أخري تقول أنه لا تأثير للضرائب على الاستثمار. إستخدام الرياضيات في الإقتصاد لابد و أن يفهم على انها وسيلة مساعدة و ليست غاية في ذاتها. و أتمني حين يتم تناول هذه القضايا التي تهم المواطن بشكل مباشر أن يتم مراعاة المهنية و إظهار حقائق الأمور التي تختفي وراء سحر الارقام.
الاقتصاد ليس فيزياء و أحياء، هو سياسة و إنحياز