كتب: حسين كمال
بلا أدني شك تعاني مصر من قصور في مجال عدالة الفرص. أقلية نسبية من الأطفال المصريين له الحق و القدرة في التعليم الجيد في المدارس الدولية و الخاصة بصفة عامة. هذا القطاع أيضاً قادر على تحمل نفقات العلاج الراقي في المستشفيات و العيادات الخاصة. أبناء تلك الطبقات القادرة قلما يعانون من مشاكل في التغذية أو ما شابه. هؤلاء في معظم الاحوال لهم نصيب الاسد في الدخول المرتفعة مستندين أيضاً على الأصول الإقتصادية المتوفرة لديهم من أسرهم. على الجانب الاخر، الجزء الاكبر من المصريين يتلقي تعليمه في المدارس الحكومية رديئة الجودة. الوضع في ارياف مصر أكثر سوءًا، حيث يتسرب الاطفال من المدارس لكي يلتحقوا بسوق العمل. أبناء الطبقات الأفقر في المجتمع المصري يعانون من سوء الاحوال الصحية و التغذية. الاطفال القادمون من هذه الطبقات الاجتماعية المتواضعة لا يشعرون بالحماية لأن أسرهم لا تمتلك أصولاً الاقتصادية (دخل شهري مرتفع، استثمارات عقارية…..إلخ) لذا يختارون عدم الإستثمار طويل الأجل في التنمية البشرية (تعليم مدرسي/جامعي، تدريب فني، تغذية، رياضة) لعدم قدرتهم عليها و عدم جدواها الاقتصادية في ظل معاناتهم اليومية في توفير الإحتياجات الاساسية من مأكل و مشرب و ملبس. يمكننا القول أن مصر تمتلك اقتصادين أو شعبين شعب له الفرصة و أمل في المستقبل و شعب أخر، و هو الغالبية، يلهث وراء توفير احتياجاته الاساسية.
القارئ للسطور السابقة سوف يخلص إلى أن المشكلة المصرية تكمن فقط في عدالة الفرص. سوف يرد عليك المسؤول الحكومي أن التعليم الحكومي “الرديء” في مصر كالماء والهواء و متاح للجميع بلا تفرقة أو تكلفة و كذلك المستشفيات و الوحدات الصحية. في اعتقادي كي يتم بناء مجتمع عادل لابد من الجمع بين عدالة الفرص و عدالة النتائج. في كثير من الاحيان، لا يتم الاستفادة من عدالة الفرص الظاهرية من قبل الطبقات الاقل حظا في الدخول و الثروة في ظل عدم وجود حد أدني من عدالة في النتائج (هنا أقصد حد أدني من الدخل الكريم للأسرة، حد أدني من التأمين الصحي، حد أدني من الاعانات الإجتماعية).
الطفل القادم من طبقات معدمة، جائع أو سيء التغذية لا نتوقع منه تفوق علمي أو مستوي فوق المتوسط حتي في المدرسة الحكومية “الرديئة” في الاساس. كما لا نتوقع منافسة حرة و نزيهة على الوظائف مرتفعة الدخل بين من اتيح له الفرصة في التعليم الخاص و بين من لم تتح له، تحت بند أن الكل له الحق في تقدم للوظائف دون أي تفرقة مسبقة. و لا ننتظر أن أبناء الطبقات الأفقر في صعيد مصر، القادمين من مدارس غير مدعمة الدعم الحكومي الكافي و المدرسين غير مؤهلين لتخريج جيل قادر علي التفكير النقدي، قادرين على المنافسة على الوظائف مع اقرانهم الاكثر ثراءً خريجي المدارس الدولية في القاهرة. من الصعب أيضاً أن نتكلم عن منافسة عادلة ما بين أفراد المجتمع حين يكون الفرد القادم من الطبقة القادرة محمياً على الأقل بدخل أسرته المرتفع مما يتيح له الفرصة لإكتشاف نفسه و إختيار الوظيفة التي تناسبه في حين الفرد الغير مؤمن بدخل أسرته مجبر على إختيار وظيفة لا تناسبه أو تناسب مؤهلاته لأنه لا يمتلك ترف البحث طويل الاجل عن فرصة عمل و البقاء عاطلاً فينتهي به الأمر إلى عمل متدني القيمة و الإنتاجية.
يقول الإقتصادي الكوري الجنوبي هاجون تشانج بجامعة كامبريدج البريطانية العريقة في كتابه “٢٣ شيئاً لا يقولونه لك عن الرأسمالية” أن كثير من فقراء العالم النامي، الذي يتيح خدمات عامة مجانية كالتعليم و الصحة كما في الحالة المصرية، يتسربون من مدارسهم لأنهم لا يمتلكون من الاموال ما يكفي كى ينفقونه على الدراسة (كراسات، أقلام، ملابس، وجبات، دروس خصوصية في بعض الاحيان). كثير من الفقراء أيضاً، و هم على حق، يفضلون الاستهلاك قصير الاجل (مأكل، مشرب، ملبس) عن الاستثمار طويل الاجل (تعليم، صحة، الاستثمار في أصول إنتاجية) نظراً لقلة مواردهم. هذا يتوافق مع قانون إنجل الذي يقول أن كلما زاد دخل الفرد كلما قل نسبة انفاقه على احتياجاته الاساسية (إذا كنت تأكل ربع كيلوجبنة رومي إسبوعياً و إنت دخلك ألف جنيه شهرياً، لن يزيد إنفاقك على الجبنة الرومي 100 ضعف إن زاد راتبك إلى ١٠٠ ألف جنيه).
يتابع تشانج فيقول إن قلة التغذية تعوق الطفل عن التركيز و التحصيل الدراسي، و في الحالات الاكثر تطرفاً يكون التطور العقلي للطفل قد أصابه الكثير من التشوهات بسب نقص التغذية. هؤلاء الاطفال يمرضون أكثر من اقرانهم فيتغيبون بنسب أكبر من زملائهم الاكثر ثراءً. أسر هؤلاء الاطفال يعملون لساعات طويلة مما يمنعهم عن مساعدة ابنائهم في واجباتهم المدرسية و تحسين قدراتهم المعرفية. الأسر الفقيرة عادة كثيرة العدد مما يشكل عبئاً على الاطفال لإنهم في بعض الاحيان مسؤلوون عن اخوانهم/اخوتهم الأصغر سناً في غياب الأب و الأم، هذا أيضاً يشكل إعاقة على التحصيل الدراسي و التقدم المعرفي مما ينعكس مستقبلاً على فرصهم الاقتصادية في المجتمع. يقترح تشانج في هذا السياق أن يتم اتاحة وجبات مدرسية، تطعيمات، متابعة صحية دورية للاطفال الأفقر، تحويلات نقدية للأسر كي يتم رفع العبء المادي عنهم الذي يحصرهم في بوتقة العوز و الفقر.
هذا في سياق الاطفال، لكن تشانج يدعو إلى تحسينات كبيرة أيضاً في مجال عدالة النتائج على مستوي الكبار (تأثيرها يمتد للكبار و ابنائهم). يقول تشانج أنه من الصعب الدخول مرة أخري في سوق العمل بعض خسارة عملك، و يزداد صعوبة إن كان متخصص (عمال في مصانع حديد/ أسمنت على سبيل المثال). هؤلاء يصعب عليهم تطوير مهارتهم للدخول في صناعة أو مجال أخر بسرعة. ذلك له أثار سلبية علىهم و على ذويهم الفقراء أصلاً إن كانوا من أبناء العالم النامي. يقترح تشانج أن يتم إيقاف تلك الأثار السلبية عبر اعانات بطالة و مساعدات تقنية من الحكومة كي يتم إعادة تدريب هؤلاء و مساعدتهم في البحث عن وظائف كما في الدول الإسكندنفية. أثار البطالة و الدخول المتدنية (كما في الحالة المصرية) تمتد إلى أبناء الفقراء و تنعكس في فقر الصحة، التعليم و التغذية مما يشكل حاجزاً أمام تطورهم الإقتصادي و فرص صعود السلم الاجتماعي.
المجتمع المصري يتوق شوقاً للعدل الاجتماعي ما بعد الثورة. بعض أنصار السوق الحر يقولون أن مزيد من العدالة سوف يشوه الحافز للاغنياء كي يضخوا استثماراتهم في الاقتصاد. و أن الزيادة في الاعانات الإجتماعية التنموية سوف تعطي الافراد المزيد من الحافز للكسل و يقتل المنافسة ما بين المجتهدين و ما بين الكسالي. الحقيقة أن المنافسة الحرة ما بين جميع أفراد المجتمع تأتي فقط عن طريق بداية نقطة إنطلاق واحدة للجميع (حد أدني من الدخل، التغذية، التعليم، الصحة) و هو ما ليس موجوداً في الحالة المصرية. عدالة الفرص و عدالة النتائج توام ملتصق لا ينفصل، صعب تحقيق احداهم في غياب الاخر. كشف أسباب إنعدام العدالة و توارث الفقر عبر الاجيال و محاولة علاجه بالتدخل المباشر لابد أن يكون أولوية أساسية عند صانع القرار المصري في المستقبل القريب.