كلنا تابعنا و ما زلنا متابعين الجدل الدائر حول التاكسي الابيض و اوبر. البعض مؤيد لاوبر و مدافع شرس عن الخدمة المتميزة التي تقدمها و معارض للأساليب التي اتبعها سائقي التاكسي الابيض في الإعتراض و البعض الآخر مدافع عن حقوق سائقي التاكسي الابيض إنطلاقاً من مبادئ العدالة الاجتماعية.
تطبيق اوبر ظهر في الولايات المتحدة الامريكية في ٢٠١٢ كجزء من تغير و تحول عالمي في الإقتصاد. في بدايات القرن الواحد و العشرين ظهر مصطلح الإقتصاد التشاركي. و هو ببساطة مشاركة الأصول البشرية والمادية بين الفاعلين في الإقتصاد. يضم الاقتصاد التشاركي مجموعة واسعة من الأنظمة كالربحية وغير الربحية والمقايضة والأنظمة التعاونية. الإقتصاد التشاركي ظهر في الغرب كرد فعل على إستنزاف الموارد و الإنهيار البيئي و النمو السكاني المطرد و إرتفاع معدلات البطالة مستخدماً التقنيات الحديثة و الثورة التكنولوجية المهولة التي نعيشها في أخر ٢٠ سنة. ظهور نموذج اوبر يقابله عديد من الأمثلة في مجالات أخري مثل السفر و السياحه ك أير بي إن بي و اكسبيديا و حتي في مجالات مثل بيع الكتب كنموذج امازون. بعض من هذه الامثلة تتبع نموذج بي تو سي بمعني أن التعامل التجاري يحدث بين الشركة و المستهلك و بعضها سي تو سي من المستهلك للمستهلك مثل أير بي إن بي. بالطبع الامثلة السالف ذكرها تهدف إلى الربحية، هناك أمثلة أخري لا تهدف إلى الربحية و تعزز فكرة المشاركة المحلية في الموارد كستريت بنك في المملكة المتحدة و هو بإختصار وسيلة عن طريق إستخدام موقع إلكتروني لمشاركة المنتجات الزائدة عن حاجات المستهلكين في نفس الحي مع باقي سكان الحي ليكن تليفزيونا، أدوات تنظيف…إلخ. هذا التحول العالمي المستند على الثورة التكنولوجية أصبح حقيقة مؤكدة يجهز العالم للتعامل معها كأمر واقع. هذا التجهير يشمل محاولة ايجاد اليات لهذه النماذج بالأخص الربحية منها كي تدفع الضرائب و تخدم الصالح العام.
هذا التغير في الاقتصاد العالمي بالطبع له أثار وخيمة على الشركات التقليدية الفاعلة في تلك المجالات. شركات التاكسي الحكومية و الخاصة حول العالم تتكبد خسائر جمة و كذلك شركات السياحة و السفر بل و المكتبات. هذا يذكرني أيضاً ببدايات الالفينيات مع ظهور الايبود و التحميل الاكتروني، تم تكبيد شركات الموسيقى و صناعة الأقراص المدمجة خسائر عظيمة. هل تتذكرون نوكيا؟ في يوم من الايام كان النوكيا شبه مرادف للمحمول. أين نوكيا الأن؟ تم تدميره بواسطة شركات مبدعة اكتسحت سوق المحمول مثل أبل و سامسونج. هذه العملية المستمرة في الغرب منذ الثورة الصناعية تسمي التدمير الخلاق، المصطلح الذي ابتدعه الإقتصادي النمساوي شومبيتر. تلك العملية بإختصار هي أن التطور التكنولوجي المستمر لابد و أن له ضحايا و يدمر ما سبقه في سبيل تقدم إقتصادي اوسع و اشمل. هؤلاء الخاسرين يأخذون بعض الوقت كي يتأقلموا ويندمجون في المنظومة الجديدة أو صناعات أو مجالات أخري لم يطولها التدمير. بالطبع ما يساعد الغرب على إمتصاص الخسائر الاجتماعية الناتجه عن تلك الخسائر هو شبكة الامان الإجتماعي التي تحمي المتضررين و العاطلين عن طريق اعانات البطالة و إعادة التدريب. أيضاً مستوي التعليم المرتفع في الغرب يساعد الافراد أن ينقلوا مهارتهم إلى صناعات أخري. يمكننا القول أن في الغرب منظومة تكيفية تمتص تلك الخسائر لبعض الوقت حتي يتم ادماج الخاسرين في المنظومة الجديدة. لم يكن طريق الغرب مفروشاً بالورود للوصول لتلك المنظومة التكيفية. القيود على الابتكار و التكنولوجيا كنت أيضاً حاضرة في بلاد الانجليز. قبل الثورة إنجلترا المجيدة في القرن ال17، التي مهدت الطريق للثورة الصناعية، وكانت القيود على الابتكار مماثلة لمصر اليوم. في عام ١٥٨٣ اخترع وليام لي آلة الحياكة لتحل محل الحياكة اليدوية. سافر إلى لندن ليظهر للملكة اليزابيث مدى فائدة الجهاز و كي يطلب منها الحصول على براءة اختراع. عندما شاهدت الملكة الجهاز، قالت له “هل تدرك ما يمكن أن يفعله هذا الاختراع لرعايانا الفقراء؟ هذه وصفة للخراب سوف تحرمهم من فرص العمل، مما يجعلهم متسولين. الملكة اليزابث كان حاضر في ذهنها الاضطراب الاجتماعي و السياسي الذي يمكن حدوثه جراء الموافقة على تعميم تلك التكنولوجيا، لذا فضلت الاستقرار السياسي على التقدم الإقتصادي.
لكن ما يعنيني هنا هو نقاش الحالة المصرية. مصر ليست بمعزل عن العالم و تسرب هذا النموذج إلى داخل حدود الدولة المصرية. مصر بها طبقة فوق متوسطة و عليا تضاهي نظيرتها الغربية في الامكانات المادية و قدرتها على التعامل مع التكنولوجيا. وجود هذا النموذج المستند على التطبيقات ربما هو مخرج لها للاستمتاع بخدمة متميزة لا تقدر الدولة أو القطاع الخاص التقليدي على أن تقدمها، و هو حقها على أي حال. على الجانب الاخر هناك ألافات مؤلفة من سائقي التاكسي الابيض الذين سيعانون أشد المعاناة في حالة خسارتهم الارباح القليلة التي يجنونها من عملهم. و هناك شريحة عريضة من المستهلكين الفقراء لا يقدرون على دفع تكاليف هذا أو ذاك و يستخدمون وسائل أخري رديئة كالتكتوك و الميكروباص.
الدولة هنا لا يعنيها التقدم الإقتصادي أو راحة المواطنين على أي حال. ما يهمها في المقام الاول هو الاستقرار السياسي و الحفاظ على الحاكم الاوحد. لذا نشاهد الدولة تلعب دور المتفرج في بعض الاحيان و في البعض الاخر كفاعل ضد الخدمة المتميزة اللتي يقدمها أوبر عن طريق تحرير محاضر لسائقيه! كأن الدولة ترسل رسالة للمجتمع. إن كنت مجدد و مبدع فلا مكان لك في هذه الدولة. و إن كنت فاشلاً و لا تقدم خدمة متميزة فمكانك هنا تعاني كأفراد التاكسي الابيض و تظل عبدا لفتات من الجنيهات و عائقاً ضد التطور. الدولة المصرية تتعامل بمنطق الانجليز في القرن ال-١٧. الاستقرار السياسي أهم من أي شئء. و الدولة المصرية بطبيعة الحال لا يوجد لديها اليات و ميكانيزمات إمتصاص كتلك المتاحة في الغرب. لا شبكات أمان إجتماعي تحمي المدتررن. لا قدرة على إنشاء شركات تاكسي أو وسائل نقل عام تنافس أوبر. و بطبيعة الحال نظام التعليم المصري لا يضع افراده في وضع يسمح لهم بتغير حرفهم و مهنتهم بسهولة.
الدولة المصرية من جهة لا ترضي بالإضطراب السياسي الناتج عن خسارة بعض المواطنين لأعمالهم و ليس لديها ما تقدمه لهم و في نفس الوقت هي لا ترضي بوجود طبقة من المجددين المبتكرين و رواد الأعمال المستقلين البعيدين عن سلطتها. هي ترضي فقط برجال الاعمال التابعين لها المنخرطين في أعمال طفيلية و تشاركهم في ارباحهم.
إذن المنظومة القائمة تستند في الاساس على المعاناة لسائقي التاكسي الابيض و إذلال المبتكرين. ثنائية أوبر التاكسي الابيض موجودة و حاضرة في مصر في كل المجالات في مصر لأسباب سياسية في المقام الاول و ليست لاسباب فنية أو ربانية أو تقنية
هل الحل في منع اوبر؟ أم الحل في التصدي لتظاهرات التاكسي الابيض؟
أعتقد لا هذا ولا ذاك. في الاجل المنظور إن كانت الدولة جادة في تقديم خدمة متميزة، فعليها إنشاء شركة واحدة فقط لها تدمج فيها كل سائقي التاكسي المصريين و تستثمر في تدريبهم و تقدم خدمة متميزة باسعار تنافسيه. ليس فقط الاستثمار في التاكسي هو المهم لكن أيضاً الاستثمار في وسائل النقل العام بصفة عامة.
في الاجل الطويل وجود شبكات أمان إجتماعي و منظومة تعليمية و تدريبية ترفع من القدرة التكيفية للمجتمع للتعامل مع التدمير الخلاق هي الحل إن ارادت مصر التكيف و الدخول في الاقتصاد العالمي و تقبل صدماته.