تمييع قضية التنمية

بعدما تخرجت من الجامعة و استكملت رسالة الماجستير في الاقتصاد، اتيحت لي فرصة ذهبية للعمل في إحدي المنظمات الدولية الهامة المعنية بشؤون التنمية و الفقر. بالنسبة لي كانت بداية موفقة في هذا السن من حيث اني نجحت في الدخول إلى المجال الذي طالما حلمت به و أيضاً دفعة كبيرة لسيرتي الذاتية

عملت كباحث مساعد و في خلال فترة عملي التي امتدت لحوالي عام تعمقت في البحث عن أسباب غياب العدالة الاجتماعية في مصر و محاولة صياغة سياسات و توصيات قد تستفيد بها الحكومة إن شائت. عملي أتاح لي لحسن الحظ الفرصة للتعرف على نخبة واسعة من المهتمين و العاملين بالشأن العام من اساتذة جامعة، موظفين كبار بالمؤسسات المالية و التنموية الدولية، سياسيين، وزراء، موظفين في الجهاز البيروقراطي، شباب من مختلف المحافظات و الخلفيات الاجتماعية و المادية. كانت تلك الاجتماعات و المؤتمرات و النقاشات مع نخبة “التنمويين” المصريين بالمشاركة مع الحكوميين فرصة، و إن كانت محدودة، لدخول مطبخ صنع القرار في مصر و رؤية جانب من أساليب صياغة و صنع السياسات التنمية في مصر.

لطالما شاهدت الناس منزعجين من أحوالهم المعيشية، دائمي الشكوي و إتهام الحكومة بعدم مراعاتها لشؤونهم الاقتصادية و الاجتماعية. تجد الكثير من المواطنين يلقون باللوم على الفساد (و هو بلا شك عنصر و جزء من ضعف العملية التنموية) على أنه السبب الرئيسي للتراجع المستمر للأوضاع المعيشية. انما تجربتي القصيرة في عالم التنمية المصري أعطي لي انطباعات مختلفة و أوسع من مجرد إلقاء اللوم الفساد فقط كعنصر أساسي معوق للعملية برمتها. دولاً مثل الصين و روسيا و المكسيك و البرازيل تحقق معدلات نمو مرتفعة جداً برغم تدني ترتيبها في مؤشر الفساد Corruption Perception Index. تحتل الصين على سبيل المثال المركز ال-100 على مستوي العالم و روسيا ال-136 بينما تحتل مصر المركز ال-94. دولاً مما يسمى العالم الاول مثل إيطاليا تحتل أيضاً مركزاً متدنية في مؤشر الفساد بالنظر لمدي تقدمها الإقتصادي حيث تحتل المرتبة ال-69. إذن الفساد ليس هو بالمحدد الاساسي أو السبب الرئسي وراء تراجع النمو الإقتصادي و التنمية بمعناها الأشمل. ما لاحظته بشكل أساسي في تجربتي القصيرة تلك هو قصور و تمييع (من مياعة) متعمد أو غير متعمد لقضية التنمية من قبل القائمين على صانعي السياسة التنموية في مصر و هم في واقع الأمر لفيف كما ذكرت سابقاً من اساتذة جامعات، وزراء حاليين و سابقين، مؤسسات دولية، بعض منظمات المجتمع المدني التابعة للنظام الحاكم.

ماذا أعني بالتمييع؟

الدولة في العموم منوطة بتقديم الخدمات العامة على أعلي مستوي. تلك الخدمات تشمل التعليم، الرعاية الصحية، مياه الشرب، الكهرباء. كما أن الدولة منوطة بحماية المستضعفين عن طريق اعانات البطالة، التأمينات الاجتماعية و غيرها من شبكات الامان الاجتماعي. كما أن لابد أن يكون للدولة سياسة محددة فيما يتعلق بالصناعة و الزراعة و سبل تطويرهم و رفع انتاجيتهم مما يسهم في رفع الدخل القومي المتدني في مصر. كما أن لابد للدولة أوليات محددة فيما يتعلق بالإستثمار. هل هو إستثمار يستهدف التشغيل أم يستهدف تطوير التكنولوجيا أم هو استثمار استهلاكي يستفيد منه القلة كما يحدث في مصر. كل هذه واجبات ملزمة للدولة و ملزمة أكثر لدولة نامية مثل مصر تعاني من مشاكل كثيرة فيما يتعلق بالفقر و توزيع الدخل و ضعف الإنتاجية و إرتفاع معدلات البطالة و إنهيار المنظومة التعليمية و الصحية.

ملحوظتي الرئيسية نبهتني إلى شئ خطير ألا هو وجود طبقة عريضة من العاملين في مجال التنمية داخل و خارج الحكومة، و هم بالمناسبة محتكري هذا المجال منذ عصر حسني مبارك و ربما السادات بصفتهم “خبراء التنمية”و كأن التنمية الاقتصادية و الاجتماعية هي شأن فني للخبراء يحدث بمعزل عن تفاعل القوي الاجتماعية و تمثيل مصالحها، يشتركون في أفكار عن التنمية تسحب عن الدولة دورها في القيام بواجبها في تقديم الخدمات الإجتماعية على أعلى مستوي لأكبر عدد ممكن للمواطنين. تلك الأفكار تختصر التنمية الشاملة في فكرة بسيطة ألا و هي “المبادرات”. مبادرة تطوير 100 مدرسة، مبادرة تابلت لألف طالب في قرية ما، تطوير عدد من العشوائيات، مشروع تطوير الألف قرية الاكثر فقراً، إعطاء عدد من القروض الميسرة لمجموعة من الشباب. تلك المبادرات تأتي بمباركة الحكومة و في بعض الاحيان تحت اشرافها بالتعاون مع المؤسسات الدولية و بعض المنظمات المجتمع المدني المرضي عنهم. إنسحاب الدولة من الشأن التنموي و إشتداد حدته مع قدوم رجال جمال مبارك في 2004 إختصرت التنمية في شكل مبادرات لتخفيف وطأة الفقر و المعاناة لبعض المواطنين الاكثر تضرراً. في هذا الإطار يتم إلقاء عبء التنمية بشكل أساسي على المجتمع (لاحظ الانفجار في عدد الجمعيات الاهلية المهتمة بالشأن العام) مع إنسحاب تدريجي للدولة من دورها الاساسي. و كأن المواطنين هم مسؤولين عن فقرهم و بأيديهم الاليات القانونية و التشريعية و التنفيذية لرفع مستوي معيشتهم بشكل مستدام.

ما فاجئني حقاً هو إستسلام نخبة المثقفين و حاملي شهادات الدكتوراه من أعتي الجامعات في مجالات الاقتصاد و التنمية و السياسة و غيرها لتلك السردية بل و التوافق معها تماماً و تشجيعها. بدا لي أن قطاع من تلك النخبة قد فترت همته بحكم السن فا أصبح لا يجادل كثيراً و يعمل طبقاً للأجندة الموضوعة من النظام الحاكم. قال لي احدهم ذات مرة بعد مقابلة رئيس الجمهورية “كدة كدة العسكريين مش بيسمعوا لنا، شايفينا مثقفين بقي و بتوع جدال و تضييع وقت” فا سألته “و ليه حضرتك بتقابله؟” قال لي “امال أعمل إيه يعني؟، اقعد في البيت؟”. مجموعة الخبراء تلك محتكري عالم التنمية المصري و ناصحي النظام الحاكم الأن و فيما سبق يشجعون بعمد أو غير عمد على تمييع القضية التنموية المصرية بشكل فج و يعطون الختم و الشرعية الاكاديمية لتلك السياسات الأشبه بسياسات جمعية خيرية أو أنشطة مجتمع مدني تنموي في أفضل الاحوال. وجود تلك الفئة، و التي في كثير من الاحيان يتم إختيار الوزراء و مساعدينهم منها، خطر على السياسات التنموية لإنهم يساعدون الحكومة في صياغة سياسات البنج قصير المدي و يعطلون فرص إصلاح أكثر جذرية. هم أيضاً لا يصارحون العامة بقصد أو بغير قصد أو خوفاً من النظام القمعي بحقيقة الاوضاع و طرح بدائل أكثر جذرية و تكاملية يمكن للعامة التناقش حولها و إن لم تنفذ. دور المثقف أو صاحب علم ما هو نقدي بالأساس و إن كان بوقاً لنظام ما فهو لا يصلح أن يطلق عليه خبيراً بل منفذاً مطيعاً.

قضية الفقر و التهميش الإجتماعي و ضعف الإنتاجية في الزراعة و الصناعة هي نتاج تراكمي لسياسات فاشلة عبر العصور تم تشجيعها من قبل هؤلاء الخبراء، أرجوك لا تصدق أن أحوالنا في تراجع بسبب إنعدام الضمير أو الأخلاق و شيوع الفساد.

عايزين دولة مش جمعية خيرية

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: