العدالة الاجتماعية: ترف أم ضرورة لمصر؟

كتب: حسين كمال محرم

كثير من الاصوات في التيارات السياسية المختلفة تنادي بوقف المظاهرات التي يسمونها “فئوية” حتى تعبر مصر الفترة الإنتقالية المضطربة. الحجة تستند بالأساس على فكرة أنالاستقرار في حد ذاته سوف ينتج عنه زيادة في الإنتاج و بالتالي زيادة في الأجور و من هنا تتحقق العدالة الاجتماعية. هذا بطبيعة الحال مفهوم قاصر و ضيق للعدالة الاجتماعية. وصفتهم السحرية تضمن أيضاً و تنصح بإنتهاج سياسات تقشفية لسد عجز الموازنة و توفير الموارد للاستثمار. مفهوم التقشف هنا عادة ما يعني خفض للأجور و الانفاق على قطاعات هامة و حيوية للتنمية البشرية و الاقتصادية كالصحة و التعليم. خفض الأجور في أوقات الكساد أيضاً بدوره يعد خطأً من منظور إقتصادي بحت، حيث خفض الأجور يهدد بخفض الطلب العام على السلع و الخدمات بسبب إضعاف القدرة الشرائية للمواطنين مما يؤدي إلى إمتداد الكساد إلى فترات أطول من المتوقع لها. هذه المدرسة الفكرية أيضاً تؤمن بأن أهلية و قدرة رجال الاعمال الأغنياء على ضخ الاموال في استثمارات عملاقة سوف يؤدي بدوره إلى تساقط ثمار النمو على القطاع الاكبر من المواطنين، و هذا ما يطلق عليه الاقتصاديين the trickle down effect لكن هذه التجربة اثبتت فشلها الذريع في مصر إبان عصر الرئيس السابق حسني مبارك.

صحيح مصر كانت تحقق معدلات نمو إقتصادي مرتفعة للغاية إن تمت مقارنتنا بدول نامية أخري لكن هذا لم ينعكس أبداً على مستوي معيشة أغلبية المواطنين المصريين. إنهيار في مجالي التعليم و الصحة، معدلات فقر مرتفعة للغاية، جهاز إداري و بيروقراطي ضخم غير فعال و بنية تحتية مهترئة كلها خصائص الاقتصاد المصري الموروث عن عصر مبارك. فقط حفنة صغيرة من المصريين تمتعت بثمار هذا النمو و الاغلبية في حيز النسيان، مما يجعل الكلام عن العدالة الاجتماعية “شعار الثورة الاهم في رأيي” في غاية الاهمية و الخطورة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا نهتم بقضية العدالة و التفاوت في الفرص و مستويات المعيشة بين البشر؟ لأن طبيعتنا كبشر نهتم بالاخرين و ننظر لهم و إلى مستوي معيشتهم و نقارنها بأنفسنا. الظلم يؤدي إلى أمراض إجتماعية جسيمة و يدمر الترابط المجتمعي و الاحساس بالتكاتف و الوحدة بين أفراد المجتمع. يمكننا بسهولة ملاحظة الإضطرابات الإجتماعية التي تمر بها مصر نتيجة للظلم و الاستبعاد الاجتماعي من منظومة التنمية. من الناحية الاقتصادية، الفقراء و المهمشين هم طاقة معطلة مما يشكل عائقاً كبيراً للتنمية. أيضاً الاستبعاد من عملية التنمية يجعل بدء عملية التصنيع أصعب بسبب نقص العمالة المدربة و يشكل حاجزاً أمام الملايين من المشاركة في الاقتصاد الرسمي و الانخراط في أعمال إنتاجية مربحة.

من الناحية السياسية، العملية الديمقراطية لا تستقيم في مجتمع غير عادل لأسباب عدة. الأثرياء أو المتمتعين بمزايا إقتصادية عندهم من القدرة الكافية لكي يوجهوا دفة العملية السياسية في صالحهم. الفقراء في المجتمع غير العادل غالباً ما يكونون غير ممثلين تمثيلاً سياسياً كافياً، مما يعوق قدرتهم على الضغط على السلطة في سبيل إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي و الاقتصادي كي يحموا مصالحهم و يرفعوا مستوي معيشتهم. علاوة على ذلك، كما لوحظ في مصر في الفترة الاخيرة ما بعد الثورة أن القلة المستفيدة من النظام الإقتصادي تستغل المحتاجين و الفقراء عن طريق اعطائهم أموال أو غذاء كي يصوتوا لهم أو لممثليهم لكي يحافظوا على وضعهم الاقتصادي و الاجتماعي. لذلك، أعتقد أن بقاء التفاوتات الكبيرة في المجتمع المصري من الناحية الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، و الثقافية لا يمكن أن تستمر إن ارادت مصر أن تكون مثالاً للتحديث الاقتصادي و الإصلاح الديمقراطي.

ليس هناك توافق عام في الأراء عن ماهية العدالة الاجتماعية. لكن في اعتقادي أن العدالة الاجتماعية هي مفهوم أوسع من مجرد زيادة في الأجور أو إصلاح البنية التحتية في العشوائيات الفقيرة. العدالة الاجتماعية ليست فقط تحسن في النتائج الاقتصادية بل أيضاً و الأهم هي العدالة في الفرص. العدالة في الفرص هنا تعني قدرة كل فرد في المجتمع على تلقي تعليم و تدريب جيد و علاج راقي يؤهله لعمل ذو أجر مرتفع يحقق له طموحه كفرد و الترقي في السلم الاجتماعي بغض النظر عن الوضع المالي، الاجتماعي أو التعليمي لأسرته أو آي سبب أخر.

من المهم أيضاً حين التحدث عن العدالة الاجتماعية القاء الضوء على منظور امارتية سن الاقتصادي الهندي الحائز على جائزة نوبل للتنمية، العدالة الاجتماعية في منظور سن تقتضي أن تلعب الدولة دوراً مباشراً في إعطاء الحريات و القدرات للمواطنين في أن قيادة الحياه التي يختاروا أن يعيشوها. على سبيل المثال، رجل أو سيدة ثرية تعيش في مجتمع يعاني من الامراض المتوطنة و نظام صحي غير جيد في مفهوم سن للعدالة الاجتماعية هما ليسوا أناساً احرارا. المرض و النظام الصحي المعتل يمنعان هذا الرجل أو هذه السيدة من السعي إلى الحياه التي يتمنوها. بالمثل، الطفل الذي يأتي من عائلة فقيرة يتسرب بدوره من المدرسة من أجل الدخول في سوق العمل لرفع دخل الأسرة هو أيضاً سجين ظروفه و لا يملك الحرية في إختيار ما هو أفضل له.

في الحالة المصرية و كما سبق و أن قلنا أن إستمرار التفاوتات الرهيبة تشكل تحديداً خطيراً على نمو الاقتصاد المصري. دوام هذه الظاهرة له عواقب وخيمة على التماسك الاجتماعي، النظام السياسي و حتى النمو الإقتصادي الذي ظل لعقود هدفاً أوحداً لنظام حسني مبارك. ماذا اذن يمكن للحكومة المصرية عمله على الأقل في المدي
القصير لتقليص الفجوات و تمهيد الطريق أمام إصلاحات أكثر جذرية؟

دعم الغذاء في مصر يحتاج إصلاحات جذرية و عاجلة لأن كثير منها يذهب لمن لا يستحقها (هل يعقل أن يشتري ساكن الزمالك أو التجمع الخامس رغيفاً مدعما؟ لا أظن!). هناك دراسات تقدر أن المتسرب من الدعم الغذائي في مصر يصل إلى ٧٨٪ عن طريق السوق السوداء، شراء الغذاء المدعوم من قبل الغير محتاجين و علف للحيوانات.

النظام الضريبي في مصر أيضاً مشوه و يخدم الأغنياء. لابد من إقرار نظام ضريبي جديد من خلال نقاش مجتمعي عام و التواصل مع الاطراف المعنية و أصحاب المصلحة. حيث يجادل البعض أن فرض الضرائب على الأغنياء سوف يؤدي إلى هروب الاستثمار و رأس المال (لا أدري كيف و أعطي الدول الرأسمالية المدججة بالاسثمارات تفرض ما بين ٣٠٪ إلى ٦٠٪ ضرائب و لم نسمع عن هروب الإستثمار)، إن افترضنا صحة هذا القول فلابد من طرح حافظ للمستثمر لكي يضخ أمواله في أعمال إنتاجية لا ريعية. هذه الحوافز يمكن أن تأخذ شكل تسهيلات بيروقراطية و إدارية و هي دائماً ما تشكل العائق الاهم أما المستثمرين المصريين و الاجانب، أو اعطائهم أراض بنظام حق الانتفاع، حوافز تشجع الاسثمار الإنتاجي و لا تضحي بحق المجتمع. ضرائب على العقار و الارباح الرأسمالية أيضاً تستحق الدراسة الجيدة. لابد و أن يتم مراجعة دعم الطاقة للصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة التي تحقق أرباح خيالية مستفيدة من هذا الدعم و تبيع بالاسعار العالمية. هذه مجرد بعض الافكار التي يمكن بدورها أن تحقق بعض الفائض المالي لكي يستثمر في تحسين أحوال و مستوي معيشة الفقراء.

لكن على المدي الطويل الصورة أكثر تعقيداً، مصر في حاجة ملحة و ماسة لمعالجة مشاكلها الهيكلية التي تؤدي إلى هذا الفشل الإقتصادي المتواصل. النظام السياسي و الإداري في مصر متحكم فيه من القلة المتمتعين بمزايا إقتصادية و المستفدين بالأوضاع الراهنة و افرازات النظام السياسي و المؤسسي القائم يخدم هؤلاء فقط دون غيرهم. يمكننا القول أنه شارع ذو إتجاهين. إفرازات النظام السياسي تخدم الأغنياء فقط، و لكن الأثرياء عندهم القدرة و النفوذ الكافي عن طريق شبكاتهم مع السلطة و أموالهم لتطويع هذا الوضع المؤسسي و السياسي لخدمة مصالحهم و الضغط في سبيل إبقاء الأوضاع كما هي أو حتى الضغط في سبيل مزيد من المكاسب. فتح المجال السياسي من مستوي المحليات و النقابات إلى أعلى يمكن أن يكون وسيلة جيدة لزيادة تمثيل الفقراء و يجعلهم في وضع يسمح لهم بالدفاع عن حقوقهم المهدورة و السير في سبيل العدالة الاجتماعية.

واحدة أيضاً من المشاكل الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد المصري هي مصادر تمويله. مصر يمكن أن تسمي في أدبيات الاقتصاد الدولة الريعية و هي التي تعتمد على مصادر غير إنتاجية في تمويلها مثل السياحة و قناة السويس. لابد لمصر أن تبدأ في سياسة تصنيع جديدة تأخذ في عين الاعتبار المشروعات الصغيرة و المتوسطة لا االمشاريع العملاقة فقط، لأن هذه المشاريع الصغيرة و متناهية الصغر هي عماد الاقتصاد المصري إذن فلابد من الاهتمام بهم و محاولة ادخالهم في منظومة الاقتصاد الرسمي و توسعهم عن طريق بنوك تقرض صغار المنتجين بتسهيلات كبيرة بدلاً من التركيز على كبار المستثمرين فقط. التركيز لابد أن ينصب علي المشاريع ليست ذات طبيعة إنتاجية فقط لكن أيضاً
بها تراكم معرفي كبير.

نحن الأن علي وشك الاحتفال بالسنة الرابعة للثورة المصرية مما يعني أن الاطفال الذين ولدوا في ٢٥ يناير ٢٠١١ هم الأن على وشك الدخول إلى المدرسة. هذا يعني اننا بصدد جيل جديد ينشأ غالباً أفقر و ليس له منفذ لخدمات و رعاية إجتماعية جيدة و لم يتح له نفس فرص أجيال سبقته. إذن لابد من البدء فورا في سياسة تنموية يكون الفقراء هم رأس الحربة فيها.

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s

%d bloggers like this: