بعد سقوط الإتحاد السوفيتي في أوائل تسعينات القرن الماضي، قد تم ما هو أقرب لاعتراف عالمي ضمني بتفوق النموذج الرأسمالي و السوق الحر على النموذج الشيوعي المعتمد على التخطيط المركزي للاقتصاد مع إغفال أي إعتبار للملكية الخاصة لوسائل الانتاج أو دور للقطاع الخاص في الاقتصاد. عزز هذا المنظورالتفوق الإقتصادي شبه الكاسح للدول الغربية على نظيرتها الشرقية المنتمية للاتحاد السوفيتي أو من لم يطبقوا سياسات السوق الحر. و في نفس الفترة الزمنية تم ما عرف في وقتها “بإجماع واشنطن” Washington Consensus الذي تبنته كثير من الدول العالم النامي وقتها و من بينها مصر. إجماع واشنطن هو إجماع على سيادة سياسات السوق الحر على أنها الأمثل لمعضلة التنمية في دول العالم الثالث. حزمة هذه السياسات تضمنت تحرير الاسعار، فتح الاسواق للتجارة العالمية و الاستثمار الأجنبي، توسيع دور السياسة النقدية، الخصخصة و تعظيم دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية مع تأكل لدور الدولة في هذا الشأن.
لم يثبت نموذج إجماع واشنطن نجاحه على مستوي العالم. لم تنجح الدول النامية في الهروب من دائرة الفقر و فشلت في تحقيق أي نوع من الطفرة الاقتصادية بل صاحبه إزدياد في عدم المساواة في الدخول و الثروة. بعض الدول مثل الارجنتين وصلت إلى حد الإفلاس. مصر لم تكن بمعزل عن هذه التطورات. تبنت مصر حزمة سياسات إجماع واشنطن و برغم تحقيق معدلات النمو ما بين عام 1990 و 2010 تتراوح ما بين 4.5% و 5% مقارنة بما يجاوز 7% في اسيا و 10% في الصين و لم يرتفع النمو في مصر بشكل ملحوظ إلا في السنين القليلة التي سبقت الثورة. الدول التي سبق ذكرها هي دول أقل من مصر من حيث متوسط دخل الفرد. أما معدلات الإستثمار كانت أيضاً منخفضة مقارنة باقتصادات أخري في العالم النامي و الاسواق الناشئة، فإذا أخذنا التكوين الرأسمالي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي معياراً للاستثمار لوجدنا أن متوسط هذه النسبة في الفترة ما بين 1989 و 2012 لم يتجاوز %19.6 في مصر مقارنة 28,72% لتايلاند و 41.74% للصين و 31,21% لفيتنام و 29,89% للهند.نفس الوضع يمكن أن يقال على قدرة الاقتصاد و الصناعات المصرية على التنافسية العالمية حيث أن متوسط نمو السنوي للصادرات لم يتجاوز 9.22% للفترة ما بين 1980 و 2012 علماً بأن معدل النمو كان بالسالب (2.94) في عقد التسعينات مما يوضح ضعف كبير في قدرة الاقتصاد المحلي على المنافسة الدولية و الإقليمية. هذا بلاضافة إلى الإنهيار المتسرع في مجال التنمية البشرية و إزدياد عدم المساواة بشكل ملحوظ.
برغم هذا الإنهيار و فشل النموذج المستند على إجماع واشنطن و بعد قيام ثورات لها مطالب إجتماعية، نجد أن المنظور الإقتصاد السائد على المستوي الحكومي هو إطلاق قوي السوق و سن تشريعات لتعظيم دور القطاع الخاص في تولي زمام الأمور مع الجيش في ثنائية غير مفهومة لكننا لسنا بصدد الحديث عنها في هذا المقال. في واقع الأمر يهدف هذا المقال إلى توضيح أن نموذج السوق الحر الصرف كما يدعي انصاره هو غير موجود بالمرة في أعتي الدول الرأسمالية الصناعية الان. و في بدايات إنطلاق هذه الدول نحو التصنيع و رفع الدخل القومي تبنوا سياسات أقرب للانغلاق من السوق المفتوح. لنبدأ بالولايات المتحدة قلعة الرأسمالية في العالم. الكسندر هاملتون (صورته موجودة على الدولار الامريكي) كان وزير مالية الولايات المتحدة هو العقل المخطط للاقتصاد الامريكي في القرن الثامن عشر. الكسندر هاملتون كان من أشد أنصار حماية الصناعات الامريكية من المنافسة في بدايات صعودها حتي تنضج و تحتمل المنافسة العالمية. الكسندر هاملتون كان أيضاً من أنصار دور أكبر للدولة في مساعدة صناعاتها عن طريق الاستثمار في البنية التحتية و النظام البنكي.
يفترض الإقتصادي الكوري هاجوون تشانج جدلاً إلى أن إذا تقدمت الولايات المتحدة لطلب قرض من صندوق النقد الدولي بتلك السياسات لرفض رفضا باتاً! بريطانيا في نفس الفترة تبنت سياسات انغلاقية إلى حد كبير حتي تحمي صناعة الصوف من الدول أكثر تقدماً انذاك مثل هولندا و بلجيكا. بريطانيا استخدمت الدعم المباشر للصناعة الوليدة و و صانتها من المنافسة الاجنبية. تبنت بريطانيا سياسات السوق الحر في ١٨٦٠ عندما أصبحت القوة الصناعية الأولى في العالم. كل الدول الصناعية المتقدمة ألان تبنت سياسات مضادة لعرف السوق الحر في المراحل الاولى من رحلة صعودها. لا يوجد إستثناء من تلك القاعدة، من فرنسا إلى فنلندا إلى كوريا الجنوبية إلى اليابان. و هذا سببه مفهوم لأن في بدايات مراحل التصنيع الأولي من الصعب على الصناعات الوليدة في دولة ما تحمل عبء المنافسة الدولية مع دول أكثر تقدماً. فنلندا وصلت إلى وصم الاستثمارات التي يمتلك فيها الاجانب أكثر من ٢٠٪ على انها استثمارات خطيرة حتي منتصف القرن المنصرم.
أما الأن و حتي و قد وصلت تلك الدول لمرحلة النضج الصناعي الا انهم لم يتركوا التخطيط لصناعاتهم و توجهم الإقتصادي و لم يتركوا إدارة الاقتصاد برمته للقطاع الخاص. الحكومات في الدول الصناعية تنفق المليارات على البحث العلمي لمساعدة التطوير الصناعي للقطاع الخاص و القطاع العام. الدولة في الدول الغربية تأخذ زمام الأمور فيما يتعلق بالمستقبل التكنولوجي. تلك الدول تستثمر في بنيتها التحتية و المرافق الحيوية مثل النقل و الطاقة و المياه بل و تمتلك تلك المرافق.حكومات تلك الدول ترسم سياسات التصنيع مع القطاع الخاص عن طريق ما يسمي التخطيط التأشيري أو Indicative planning . مفهوم التخطيط التأشيري هو باختصار أن الدولة تحدد مجموعة من الاهداف الصناعية و الاقتصادية الإستراتيجية مثل الاستثمار في صناعات محددة تعطي للدولة ميزة تنافسية، تشغيل للعمالة، التصدير…إلخ على أن يتم تنفيذها من قبل القطاع الخاص. الدولة تعمل على تحفيز القطاع الخاص عن طريق الترغيب و الترهيب.تستخدم الدولة أدواتها في دعم تلك الصناعات عن طريق منح حقوق الإحتكار لفترة زمنية محددة أو تنوب الدولة عنهم في الاستثمار في البحث العلمي أو الدعم النقدي المباشر. للدولة أيضاً أدوات الترهيب للتأثير على القطاع الخاص عن طريق القوانين و سحب المزايا الممنوحة لهم لتحقيق الاهداف الإستراتيجية. تبني الكثير من الدول الغربية هذا النموذج خاصة ألمانيا و فرنسا و الدول الاسكندنافية و كوريا و اليابان. أمريكا كعبة الرأسمالية حكوماتها المتعاقبة كانت تنفق ما يقرب من 50% من إجمالي الإنفاق على البحث العلمي للتطوير الصناعي في الفترة من بعد الحرب العالمية الثانية إلى أوائل التسعينيات. الدول الغربية و النمور الاسيوية تعتمد اقتصاداتهم ألان بشكل كبير على الشركات العملاقة العابرة للقارات. تلك الشركات تعتمد على التخطيط لأنشطتها و لم يتركوها لما يسمي للسوق المفتوح.
لنأتي لمصر فإنه من المحزن أن الخيال الإقتصادي المصري قد توقف ما بين ثنائية الناصرية و الجمال مباركية إن صح التعبير. الجدال الدائر دائماً في الاقتصاد المصري هل نتبني السوق المفتوح كما الدول الغربية و ننتزع من الدولة تدخلها في النشاط الإقتصادي أم ننغلق على أنفسنا كما فعلنا من قبل في التجربة الناصرية التي أيضاً اثبتت فشلها؟ الحقيقة لا هذا ولا ذاك. نحن في القرن الواحد و عشرين و قد تغير العالم كثيراً عن تجربة الستينيات لكن أثبت ايضا النموذج الإقتصادي النيوليبرالي فشله فما العمل؟
الحقيقة أنه لايوجد وصفة سحرية لعملية التنمية. هي نتاج تفاعلات إقتصادية و سياسية و إجتماعية. هي أيضاً تأتي بالتجربة Trial and Error. لكن هناك مجموعة من الحقائق التي لم تتغير على مدار التاريخ يمكن أن تكون بوصلة لما يمكن لمصر فعله إن أرادت أن تحدث إختراق إقتصادي حقيقي. الحقيقة الثابتة في التاريخ المعاصر أنه لايوجد دولة على كوكب الارض أصبحت من مصاف الدول المتقدمة بدون صناعات متقدمة. لذا أي جدال إقتصادي بدون التركيز على كيفية تحقيق ترقية لمستوي و نوع النشاط الإقتصادي و الصناعي هو في واقع الأمر مضيعة للوقت و المجهود. الحقيقة الثابتة أيضاً أن السوق الحر هو وهم و إن كانت النظرية في الكتب لها وجاهتها لكنها غير قابلة للتحقيق بشكل كامل بالأخص في دول فقيرة و ذات نشاط إقتصادي متدني. حقيقة أخري أنه لا توجد دولة في التاريخ المعاصر تقدمت عن طريق تبني تلك السياسات. سياسات السوق الحر، كانت مجرد مرحلة أخيرة بعد الوصول لمرحلة النضج الصناعي و الإقتصادي الكامل. الحقيقة الثابتة أيضاً أن الإقتصاد الحقيقي بتفاعلاته هو شئ غاية في التعقيد، لذا لن تنجح الدولة أبداً من إدارة الإقتصاد عن طريق التخطيط المركزي كما الاتحاد السوفيتي أو مصر إبان حكم عبد الناصر لسبب بسيط هو غياب المعلومات الكاملة عن الدولة فيما يتعلق بالاقتصاد، فهي تحتاج إلى القطاع الخاص و الافراد لكي يعطوها بوصلة لما يمكن أن يسمي نجاح إقتصادي و صناعي عن طريق نشاطهم الخاص فتسثمر فيه. لكن عندما تأخذ الدولة زمام المبادرة كاملة فهي تحمل نفسها ما لا طاقة لها به و لن تنجح في الاستدامة كما في التجربة الناصرية أو السوفيتية. في أوائل مراحل التصنيع يسهل على الدولة التخطيط المركزي لقلة و بساطة أنواع المنتجات المصنعة، لكن عندما يتطور الإقتصاد و الصناعة يصبح أكثر تعقيداً و يصعب على الدولة تخطيطه بشكل جيد. أما ترك زمام الأمور للقطاع الخاص مع إنسحاب الدولة بشكل كامل يأتي بنتائج عكسية لأسباب مختلفة. النشاط الإقتصادي الخاص هدفه الربح و ليس معني بإقتصاد الدولة و اهدافه الاستراتيجية ولا المطالب الاجتماعية ولا الاستثمار طويل الاجل في المرافق و البنية التحتية و في أغلب الاحيان ليس معنياً بالإنفاق على البحث العلمي. لذا بدون تدخل الدولة لتعديل منظومة الحوافز للقطاع الخاص و العمل معه لتحقيق أهداف تنموية سيفشل النظام الإقتصادي في تحقيق الرفاه لابناؤه كما في التجربة المصرية ما قبل ثورة يناير. أخيراً و ليس أخراً الاستثمار الاجنبي أيضاً إن لم يكن بتنسيق مع الدولة لتحقيق أهداف تنمية معينة (نقل تكنولوجيا،قيمة مضافة، تدريب عمالة، …إلخ) لن يفضي إلى إختراق إقتصادي مأمول.
تكمن أزمة التنمية في مصر في ضعف الإنتاجية. لذا لابد لمصر أن تراجع توجهاتها الاقتصادية بوجه عام و أن تخرج خارج ثنائية الناصرية و الجمال مباركية تلك. مصر عندها ميزة التأخر الإقتصادي. الدول الصناعية الكبري قد تركت تصنيع المنتجات الإستهلاكية لشرق اسيا و البرازيل. تلك الدول في خلال ٢٠ أو ٣٠ سنة قادمة سوف تترك جزء كبير من تصنيع تلك المنتجات بعد الوصول لمراحل أكثر تقدماً من النضج الإقتصادي و هي فرصة ذهبية لمصر لإجتذاب تلك الصناعات إليها و الاستثمار فيها.